الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
وهذا معنى دقيق لم أعلم أن أحدًا ذكره، وقيل: وصف الثبور بالكثرة باعتبار كثرة الألفاظ المشعرة به فكأنه قيل: لا تقولوا يا ثبوراه فقط وقولوا يا ثبوراه يا هلا كاه يا ويلاه يا لهفاه إلى غير ذلك وهو كما ترى.وقال شيخ الإسلام: وصفه بذلك بحسب كثرة الدعاء المتعلق به لا بحسب كثرته في نفسه فإن ما يدعونه ثبور واحد في حد ذاته لكنه كلما تعلق به دعاء من تلك الأدعية الكثيرة صار كأنه ثبور مغاير لما تعلق به دعاء آخر، وتحقيقه لا تدعوه دعاء واحدًا وادعوه أدعية كثيرة فإن ما أنتم فيه من العذاب لغاية شدته وطول مدته مستوجب لتكرير الدعاء في كل آن، ثم قال: وهذا أدل على فظاعة العذاب وهو له من جعل تعدد الدعاء وتجدده لتعدد العذاب بتعدد أنواعه وألوانه أو لتعدده بتجدد الجلود كما لا يخفى، وأما ما قيل من أن المعنى إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدًا إنما هو ثبور كثير اما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودًا غيرها فلا غاية لهلاكهم فلا يلائم المقام كيف وهم إنما يدعون هلاكًا ينهى عذابهم وينجيهم منه فلابد أن يكون الجواب إقناطًا لهم عن ذلك ببيان استحالته ودوام ما يوجب استدعاءه من العذاب الشديد انتهى، وتعقب القول بأن وصف الثبور بالكثرة بحسب كثرة الدعاء بأنه لا يناسب النظم وكذا كونه بحسب كثرة الألفاظ المشعرة بالثبور لأنه كان الظاهر أن يقال دعاء كثيرًا، وأما قوله: وأما ما قيل إلخ فهو لا يخلو عن بحث فتأمل.وحكى علي بن عيسى ما ثبرك عن هذا الأمر أي ما صرفك عنه، وجوز أن يكون الثبور في الآية من ذلك كأنهم ندموا على ما فعلوا فقالوا: واصرفاه عن طاعة الله تعالى كما يقال: واندماه فأجيبوا بما أجيبوا، وتقييد النهي والأمر باليوم لمزيد التهويل والتفظيع والتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام المعهودة التي يخلص من عذابها ثبور واحد، ويجوز أن يكون ذلك لتذكيرهم بالساعة التي أصابهم ما أصابهم بسبب التكذيب بها ففيه زيادة إيلام لهم، وقرأ عمر بن محمد {ثُبُورًا} بفتح الثاء في ثلاثتها وفهول بفتح الفاء في المصادر قليل نحو القفول.
وقولهم الشقاء أحب أليك أم السعادة والعسل أحلى من الخل، وقوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام {السجن أَحَبُّ إِلَىَّ} [يوسف: 33] ولا اختصاص لذلك في استفهام أو خبر.وما ذكر من أمثلة الخبر يرد على ابن عطية إلا أن يقيد الخير الذي ادعى منه سيبويه فيه بما لم يكن الحكم فيه واضحًا أما إذا كان الحكم فيه واضحًا للسامع بحيث لا يختلج في ذهنه ولا يتردد في الأفضل فإن التفضيل يجوز فيه، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا المقام وما أشرنا إليه هنا أولى بالاعتبار مما أشار ابن عطية وأبو حيان إليه.{كَانَتْ} تلك الجنة {لَهُمْ} أي في علم الله تعالى أو في اللوح أو المراد تكون على أنه وعد من أكرم الأكرمين عبر عنه بالماضي على طريق الاستعارة لتحقيق وقوعه فإنه سبحانه لا يخلف الميعاد، وجوز أن يكون هذا باعتبار تقدم وعده تعالى في كتبه وعلى لسان رسله عليهم الصلاة والسلام أياهم بها {جَزَاء} على أعمالهم قتضى الوعد لا بالإيجاب {وَمَصِيرًا} ينقلبون إليه، ولم يكتف بقوله تعالى: {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء} لعدم استلزامه ذلك فقد يثبت الملك في الدنيا إنسانًا ببستان مثلًا ولا يرأه فضلًا عن أن يسكن فيه، وجملة {كَانَتْ لَهُمْ} إلخ على ما ذكره الطبرسي في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد على الموصول في {وُعِدَ المتقون} بتقدير قد أو بدونه، وجوز أن تكون بدلًا من {وُعِدَ المتقون} وتفسيرًا له، وأن تكون استئنافًا في موضع التعليل.وذكر الزمخشري ما يشعر بأن هذه الجملة تذييل لتذكير النعمة بما خولهم الله تعالى وطيب عيشهم في ذلك المكان الرافع على وجه يتضمن ضد ذلك لأضدادهم فكأنه قيل كلنت لهم جزاء موفورًا لا يدخل تحت الوصف ومصيرًا أي مصيرًا لا يقادر قدره وليس كمصير الكفرة المشار إليه بقوله سبحانه: {وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَانًا ضَيّقًا} [الفرقان: 13] ويعلم منه فائدة ذكر المصير مع ذكر الجزاء فتأمل، وقوله سبحانه: {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ} قيل استئناف وقع جوابًا لسؤال نشأ مما قبله حيث أفاد أن الجنة مسكن لهم والساكن في دار يحتاج إلى أشياء كثيرة لتطيب نفسه بسكناها فكأن سائلا يقول: ما لهم إذا صاروا إليها وسكنوا فيها؟ فقيل لهم فيها ما يشاؤون، وقال الطبرسي: الجملة في موضع الحال من قوله تعالى: {المتقون} [الفرقان: 15] وما موصولة مبتدأ والعائد محذوف و{لَهُمْ} خبره و{فِيهَا} متعلق بما تعلق به أي كائن لهم فيها الذي يشاؤونه من فنون الملاذ والمشتهيات وأنواع النعيم الورحاني والجسماني، ولعل كل فريق يقتنع بما أبيح له من درجات النعيم ويرى ما هو فيه ألذ الأشياء ولا تمتد أعناق هممهم إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية ولا يخطر بباله ما يخطر طلبة ولا يتأتى له فلا يشاء آخاد المؤمنين رتبة الأنبياء عليهم السلام ولا يتعرضون للشفاعة لمن كتب عليه الخلود في النار مثلا فلا يلزم الحرمان ولا تساوي مراتب أهل الجنان، وعلى ضد هؤلاء فيما ذكر أهل النار فقد قال سبحانه فيهم {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54].{خالدين} حال من أحد ضمائرهم على ما قيل وظاهره عدم الترجيح، وقال بعض الأفاضل: جعله حالًا من الأول يقتضي كونها حالًا مقدرة ومن الثالث يوهم تقييد المشيئة بها فخير الأمور أوسطها، ورجح بعضهم الثالث لقربه والتقييد غير مخل بل مهم، وجوز كونها حالًا من المتقين ولا يخفى حاله، ولبعض الأجلة هاهنا كلام فيه بحث ذكره الحمصي في حواشي التصريح فليراجع {كَانَ} أي الوعد بما ذكر أو الموعود المفهوم من الكلام فيشمل الوعد بالجنة وبحصول ما يشاؤون لهم فيها وبالخلود على الأول والجنة وحصول المرادات والخلود الموعود بها على الثاني، وقال بعضهم: الضمير للخلود، وآخر لحصول ما يشاؤون لهم فيها أوله ولكون الجنة جزاءً ومصيرًا، والإفراد باعتبار ما ذكر ويغني عنه ما سمعت، والأكثرون على أنه لما يشاؤون وهو اسم كان وقوله تعالى: {على رَبِّكَ} متعلق بها أو حذوف وقع حالًا من قوله سبحانه: {وَعْدًا} وهو خبرها، ولم يجوز تعلق الجار به سواء كان باقيًا على مصدريته أو مؤولًا باسم المفعول أي موعودًا لما علمت من الخلاف في مرجع الضمير بناءً على منع تقديم معمول المصدر عليه وإن كان مؤولًا بغيره أو كان المقدم ظرفًا وفيه خلاف، وجوز أن يكون {على رَبِّكَ} متعلقًا حذوف هو الخبر و{وَعْدًا} مصدرًا مؤكدًا، والأظهر أن يجعل هو الخبر أي كان ذلك وعدًا أو موعودًا {مَّسْئُولًا} أي حقيقًا أن يسئل ويطلب لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون أو سببًا لحصول ذلك فمسؤوليته كناية عن كونه أمرًا عظيمًا، ويجوز أن يراد كون الموعود مسؤولًا حقيقة عنى يسأله الناس في دعائهم بقولهم: {رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} [آل عمران: 194]، وقال سعيد بن أبي هلال: سمعت أبا حازم رضي الله تعالى عنه يقول: إذا كان يوم القيامة يقول المؤمنون: ربنا عملنا لك بما أمرتنا فأنجز لنا ما وعدتنا فذلك قوله تعالى: {وَعْدًا مَسْؤُولًا}.وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد هذا عن محمد بن كعب القرظي أنه قال في الآية: إن الملائكة عليهم السلام لتسأل ذلك في قولهم: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} [غافر: 8] والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلى الله عليه وسلم والإشعار بأنه عليه الصلاة والسلام هو الفائز غانم الوعد الكريم. واستشكلت الآية على مذهب الأشاعرة لأنها تدل على الوجوب على الله تعالى لمكان {على} وعندهم لا يجب عليه سبحانه شيء لاستلزام ذلك سلب الاختيار وعدم استحقاق الحمد، وأجيب بأن الوجوب الذي تدل عليه الآية وجوب قتضى الوعد والممتنع إيجاب الإلجاء والقسر من خارج لأنه السالب للاختيار الموجب للمفسدة دون إيجابه تعالى على نفسه شيئًا قتضى وعده وكرمه فإنه مسبوق بالإرادة والوجوب الناشئ من الإرادة لا ينافي الاختيار، وهذا ظاهر إذا كان الوعد حادثًا وأما إذا كان قديمًا فالسابقية والمسبوقية بحسب الذات وذلك لا يستلزم الحدوث، أو يقال: الحادث بالإرادة تعلقه بالموعود به فافهم.
|